وهم السينما المستقلة.. تجربة عن السينما الإيطالية
"أيها السادة دعوا النفاق جانبا و لنعلن موت الواقعية الجديدة"
"أيها السادة دعوا النفاق جانبا و لنعلن موت الواقعية الجديدة"
مع نهاية الأربعينيات, بدأت الواقعية الجديدة بالاحتضار, بالرغم من فيلمين انتسبا إليها, أولهما (تاريخ لقصة حب) لمايكل انجلو انطونيوني, والثاني (المعطف) لاتوادا.. وحين وصل هذا الاحتضار إلى مرحلة خطيرة, قرر السينمائيون والنقاد, عقد مؤتمر (بارما) في محاولة لإنقاذ الواقعية الجديدة من الأزمة التي تعيش فيها منذ 1950. لكن المؤتمر باء بالفشل لعدة أسباب, منها عودة القوى الشعبية بسرعة إلى الاندماج الوطني, طارحة الصراع الاجتماعي (وهو ركيزة الواقعية الجديدة) من حساباتها, وقبلت الأحزاب اليسارية بسياسة تحالف وتعاون مع الوسط. كذلك فإن الديمقراطية المسيحية حققت, في أبريل 1948 انتصارات انتخابية ساحقة, أطلقت يدها في التصرف, فزادت من هيمنة الرقابة, وبدأت تشن هجمات حكومية على كل المعارضين, هذا بالإضافة إلى لجوء بعض المخرجين إلى نوع من الواقعية المبهمة.
كانت أفلام روسليني, وفيسكونتي وبلازيتي, وزافاتيني, تجسد مع اختلاف موضوعاتها المبادئ الأساسية للواقعية: التصوير في الأماكن الطبيعية, والاستغناء عن القسم الأكبر من الممثلين المحترفين, والاستغناء عن اللهجة الفخمة وتجنب الحكايات غير الواقعية.. الخ.. ولا ينكر أحد من السينمائيين أن الواقعية الجديدة أثرت كثيراً على السينما الوطنية, والتيارات الواقعية التي ظهرت في سينمات البلدان المختلفة.
وإذا كان قد أعلن احتضارها في مؤتمر بارما 1951 فإنها ـ الواقعية الجديدة ـ قد أدت رسالتها في كونها تجسيداً لمرحلة العبور الحتمية بين السينما الهوليودية, وكل تلك التيارات الواقعية والوطنية البعيدة عن هوليود التي عرفها عالم السينما في فترة الخمسينيات والستينيات.
أما على المستوى الإيطالي, فقد خلفت الواقعية المحتضرة, الموجة الثانية, التي تعرفت أفلام انطونيوني وفلليني, وجديد فيسكونتي, وبداية بازوليني, وهي موجة أفلام الواقعية السياسية, التي وجدت أفضل تعبير لها في أفلام روزي, وبيتري وبنتكورفو. وبصورة أقل عند برتولوتشي. وتجسد البعد السياسي لموجة الواقعية الثانية من خلال قدرة أفلامها على طرح مجمل الحقيقة حول النظام الحاكم في إيطاليا بوجه الخصوص, وفي المجتمع الرأسمالي بشكل عام, عبر مختلف ممارسات هذا النظام.
اكتشاف العوالم الجديدة
وإذا كانت فترة السبعينيات من هذا القرن, قد شهدت الموجة الثانية من أفلام الواقعية الجديدة القديمة فإن مد السينما الإيطالية يأتي بالموجة الثالثة خلال فترة الثمانينيات, تلك الموجة التي تجسدت من خلال مجمل الأفلام الإيطالية التي عرضت خلال مهرجان البندقية 73 سواء داخل المسابقة الرسمية أم خارجها, ومن هذه الأفلام (رحلة مدرسية) للمخرج بوبي افيني, و(الهارب) لجيولوبانا برلنغر.
أيام الشباب والمراهقة, والحب الطاهر البريء واكتشاف العوالم الجديدة حولنا, وخيبة الأمل الأولى, هو موضوع فيلم (رحلة مدرسية). تقع أحداث الفيلم في مقاطعة بولونيا بإيطاليا عام 1914.
يقوم طلبة إحدى المدارس الثانوية برحلة مدرسية لمدة ثلاثة أيام, وذلك مكافأة لهم لحصولهم على أعلى درجات الامتحان النهائي.
يصاحب الرحلة (كارلوبيلا) أستاذ الأدب بالمدرسة, (سربنا ستانزا) مدرسة التربية الفنية, وبأسلوب شاعري, يغوص بنا المخرج الى عالم نشعر معه بالألفة ويذكرنا بأيام البراءة, وبدء اكتشاف الحياة, والقسوة التي نشعر بها واقعة علينا من جراء هذا الاكتشاف. وأثناء الرحلة, كشف المراهقون الصغار, الكبار, أحاسيس لم يشعروا بها من قبل, إنهم يعرفون الحب لأول مرة, ولأول مرة يكرهون ويخونون. وتمتزج كل تلك الأحاسيس بعناصر الطبيعة المختلفة, فيغرد الطير في لحظات سعادتهم, ويأتي الليل كئيباً ثقيلاً ليشاركهم لحظات تعاستهم وشقائهم.
وتنتهي الرحلة ليعود كل فرد, وقد تغير فيه شيء ما, ربما إلى الأفضل, ربما إلى الأسوأ, ولكن ما هو مؤكد أن هناك شيئاً ما قد تغير.
مخرج هذا الفيلم هو (بوبي افنيتي) ولد في بولونيا عام 1931, وبدأ في دراسة العلوم السياسية بجامعة فلورنسا عام 1956, وفي عام 1968, ترك وظيفته التي كان يعمل بها في شركة لتجميد الأغذية, واتجه إلى العمل في السينما ليخرج أول افلامه (بالسوموس) و(رحلة مدرسية) هو فيلمه الثالث عشر.
الفيلم الثاني, والذي يجسد ملامح الموجة الثالثة, للواقعية الجديدة القديمة. هو (الهارب من الجندية) لجوليانا برلنغر, وتدور أحداثه في (شودو) ـ مقاطعة في شردينيا عام 1022.
تقرر سلطات شودو الحاكمة إقامة نصب تذكاري لشهداء الحرب, وتعلن فتح باب التبرعات لجمع المال اللازم من أهل القرية.
لا يتحمس أحد لفكرة دفع أي أموال. الوحيدة التي تبدي سعادتها بالفكرة وتحمسها للتبرع هي (ماريا نجيلا), لأنها تريد أن تحيي ذكرى ابنيها: سافريو, وجيوفاني, اللذين فقد أحدهما في الحرب, ومات الآخر على الجبهة الأمامية للقتال.
تحتفل السلطات بإقامة النصب التذكاري فيما يشبه الاحتفال بالأعياد القومية, ويجري كل شيء على ما يرام.
يحدث شيء, يعكر صفو هذه الاحتفالات: يتقاتل (بالدفينو) احد عمال المناجم مع واحد من جنود السلطات الفاشية, ويقتل بالدفينو.
يتضح لنا أن (بالدفينو) كان صديقاً عزيزاً (لسافريو), ابن ماريا نجيلا.
في يوم افتتاح النصب التذكاري, لا تحضر ماريا نجيلا, وإنما تذهب لتحيي ذكرى ابنها (سافريو) في الجبل, حيث قامت بدفن رفاته في قبر لا يعرفه احد.
فيلم (الهارب) من إخراج جوليا برلنغر, ومن تمثيل ايرين باباس, الممثلة اليونانية الشهيرة وجوليان حاصلة على دبلوم في القانون الدولي وتعمل بالإخراج في التلفزيون الإيطالي وقدمت مجموعة من الأفلام التلفزيونية الناجحة كان أهمها: (مغامرات بتروولف) (الهروب إلى الحلم).
في كلا الفيلمين (رحلة مدرسة) و(الهارب), هناك الواقع في الحدث اليومي البسيط, أو في واقعة تاريخية معينة: في (رحلة مدرسية) عادية, نذكر فيها التفاصيل الصغيرة, أو في احتفال صامت بذكرى موت عزيز.
في هذه الأفلام, كما في أغلب أفلام الموجة الثالثة الإيطالية, هناك بقايا الواقعية القديمة: التصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث, والاستغناء عن اللهجة الفخمة. ولكن هناك نزعة نحو الإغراق في الذات, ونقل الواقع إلى داخل النفس البشرية.
الموجة الإيطالية الثالثة, أو لنقل نتاجات السينما الإيطالية الآن, أو لنقل أغلب نتاجات السينما العالمية تجنح نحو الغوص في الذات, بحجة محاولة اكتشافها للمرة المليون, بحثاً عن جوانب لم يلق عليها الضوء من قبل, في محاولة لإعادة التوازن.
يقول (بوبي أفيني) مخرج فيلم (رحلة مدرسيـة): لا تسألني عن الواقعية, أو الالتزام, لقد انتهى عصر العمالقة, وأصبحنا نعيش عصر الأقزام الباحثين عن الأحلام العملاقة. إننا في اللحظة المقبلة سوف نفقد من نحب. فلنحلم قليلاً قبل أن تأتي اللحظة.
من الواضح أن الموجة الثالثة, موجة يشوبها اليأس, وينخر في عظامها ضياع الإنسان الأوربي المعاصر الهارب إلى الحلم. قد تكون هناك معالجة لبعض الموضوعات السياسية, وهذا ما حاولته (جوليانا) في حكاية (ماريا نجيلا) إلا أن الموضوعات السياسية هنا تفقد حرارة معالجة الواقعية القديمة, وحرارة الموجة الثانية من الأفلام السياسية. في (الهارب), كل ما يهم جوليانا هو إظهار المشاعر الداخلية لبطلتها والاكتفاء برد الفعل السلبي للظلم الواقع حولها من قبل الجنود الفاشيين.
الموجة الثالثة للواقعية الجديدة القديمة, كانت موجة سالبة, تحاول أن تجمع بين جذور الواقعية, وشاعرية إنسان بداية القرن الواحد والعشرين.
في نهاية الألفية الثانية, بات هناك جيل جديد من السينمائيين الإيطاليين الشباب والأذكياء والمغامرين والمتمرسين أكثر من الجيل القديم. وقد عرضت الأفلام المستقلة وأشرطة الفيديو التي صنعها هؤلاء ولأول مرة أخيراً في الولايات المتحدة من خلال مهرجان سينما باسم Fast Forward دام ثلاثة أيام في جامعة براون ومعهد التصميم في رود ايلند, ويقول ماسيمو ريفا أستاذ الدراسات الإيطالية في جامعة براون الذي استضاف المهرجان: إن هؤلاء السينمائيين الشباب الذين تناهز أعمارهم الثلاثين يستمدون موادهم من الفنون البصرية إلى الروايات الكوميدية, شاهدين بذلك على التوجه العالمي الذي يلتهم كل شيء.
خذ مثلاً فيلم (Tano da marire) (الموت لتانو) الذي يسخر علناً من المافيا, لقد تطلب صنع فيلم كهذا جرأة امرأة مثل مخرجته روبرتا توري. الفيلم مقتبس عن قصة حقيقية عنيفة ذات منحى خاص: إنه فيلم استعراضي موسيقي حولت فيه توري جزيرة صقلية, معقل المافيا, إلى حلبة مسرحية للسخرية من عالم تانو غوراسي السفاح الكبير والغانغستر الصغير الذي قتله رفاقه في المافيا. والفيلم أقرب إلى (Pulp Fiction) منه إلى فيلم (العراب) وقد جيء بالكثير منهم من الأزقة في أفقر احياء باليرمو, ليقدموا ـ بالغناء والرقص ـ صورة سوقية ساخرة عن المافيا التي كانت ذات وقت تتمتع بالمقدرة على كم أفواههم.
محافظ باليرمو وصف الفيلم الذي صنعته المخرجة البالغة من العمر 36 عاماً بأنه (فعل انعتاق) ولكن البعض يقول إن الفيلم بالأحرى هو تهريج مؤلم.
تقول سانتينا فورتوناتو الصقلية المولد وأستاذة اللغة الإيطالية في مدرسة التصميم, والتي شاركت في تنظيم مهرجان الأفلام: (وأخيرا تخلصنا من الشهرة الرومانطيقية المعتادة للمافيا وأبطالها السلبيين الأكبر من الحياة. ومع ذلك لا يسعني إلا أن أنزعج من تصوير صقلية بهذه الطريقة كأرض دماء وشر مستطير وعنف واعتداء, إن صقلية الحالية هي أكثر من ذلك).
وتضيف فورتوناتو: (ورغم كل شيء, فإن فيلم (الموت لناتو) والأفلام الأخرى التي تم صنعها خلال السنوات الست الماضية هي أفلام كاشفة عظيمة تقدم لنا صورة مغرية لطبيعة الأرض الإيطالية وشعبها ومشاكلها).
والمخرج بابي كورسيكاتو يسفه أقدس مقدسات البلد: الزواج, العائلة, والكنيسة, هذا المخرج الذي يسميه البعض الرد الإيطالي على المخرج الإسباني بيدرو المودافار, يستغرق في سرياليته في فيلم (Buchi Neri) (الثقب الأسود) الذي يقول عنه إنه (قصة عصرية).
بطلة الفيلم هي غانية تدعى انجيلا وهي تكتشف ان فتى أحلامها هو صديق لامرأة أخرى فتثور ثائرتها, إلى حد أن الدخان الأبيض يتصاعد من جسدها نتيجة الغضب, إنما الشيء الذي لا تعرفه هو أن فتى الأحلام الأشقر واسمه (أوامو) يصبغ شعره وهو مخنث عاجز جنسياً.
هذه هي حقيقة إيطاليا, حيث الحب هو غالباً نكتة مختفية وراء الحقيقة المرة.
كورسيكاتو (38 سنة) وهو من نابولي هو فريق سينمائي مؤلف من شخص واحد, فهو لم يخرج (الثقب الأسود) فحسب بل كتب السيناريو أيضاً وصمم بلاتوه التصوير. ويقول كورسيكاتو إن هذه الطريقة إحدى وسائل عمله المليء بالإيماءات الوجودية: (من المستحيل ان تقيم علاقة مجدية إذا لم تسع الى التعرف على نفسك اولاً).
هواء الغرب
وفي الطرف الآخر, في فيلم (هواء الغرب النقي) يصور سولديني مسقط رأسه نابولي كمدينة الوحشة المثقلة بالمال, مبتعداً بذلك عن الصورة الحيوية المعهودة لإيطاليا.
أما فيلم (II Pranzo Onirico) (الغداء الخيالي) القصير الذي يستغرق عرضه 25 دقيقة, وهو لايروس بوغيللي, فإنه على الأقل يبدأ بكليشيه سينمائي معروف: شاب يواجه عائلة صديقته, وهي عائلة إيطالية تقليدية نموذجية, ولكن بعد ذلك المشهد الأول تأخذ القصة منحى آخر عندما يكتشف جنوناً خفيا في العائلة ويحاول تخليص نفسه من ورطته.
ويقول لوكا بوفولي وهو صانع أفلام كارتونية, إن هؤلاء المخرجين المستقلين المتأثرين غالباً بالأفلام الأميركية يمثلون إيطاليا كبلد يصل إلى ما وراء وصفات الباستا (المعكرونة) السهلة, كما يقال. انهم يحاولون أن يزيلوا قناع الفحولة الإيطالية ويكشفوا عمقاً أكثر حساسية بشيء من الارتباك.
في فيلمه الكارتوني (السوبر ليس بطلاً ) يقدم لنا بوفولي رجلاً مذعورا استحوذ عليه القلق بشكل كارتوني يحاول أن يهرب من هويته الاجتماعية ويتعثر بأجزاء من أجساد متناثرة حوله, ويطارد (شرطيا) يحاول بدوره لملمة أجزاء زميله الذي يبحث عن هوية جديدة.
بوفولي (35 سنة), وهو من فيتشنزا في إيطاليا ويمارس التعليم في معهد نيويورك للفنون البصرية, يقول إنه والمخرجين الإيطاليين الجدد الآخرين (يختارون مواضيع تأتي من ضياع المثل العليا. إن الدين والسياسة في حالة انهيار في إيطاليا, إنه وضع شكوك وهؤلاء يضعون القطع المتناثرة داخل الأطر).
ويحاول المخرجون الجدد أيضاً توزيع أفلامهم تجارياً في الولايات المتحدة. ولكن دون نجاح يذكر, كما تقول جيوفانا اداماسي عميدة مجموعة أفلام المهرجان.وتضيف أن العقبات التي تعترض التوزيع ليست مالية فقط بل ثقافية انطلاقاً من ميل الأمريكيين نحو الإقبال على الأفلام الإيطالية غير المرهقة للأعصاب مثل الفيلمين الناجحين الآخرين (سينما باراديسو) و(ايل بوستينينو), وتقول اداماسي: (الناس يتوقعون أن تكون الأفلام الإيطالية مليئة بالقرى الجميلة الصغيرة في توسكاني كنوع من جنة عدن يقصدها الكل لقضاء العطلة, إنهم لا يريدون أن يعرفوا أن إيطاليا لم تعد كذلك).